٢٠٠٧/١٢/٠٩







مع ذكرى جديدة لصدور القرار 194
بقلم معتصم حمادة


عن موقع الحرية
كم هو جدير بنا أن نتنبه إلى مصادفة غريبة جمعت بين ذكرى صدور القرار 194 وموعد انطلاق مفاوضات الحل الدائم، عملاً بقرار مؤتمر أنابوليس، وأن ننتبه إلى مصادفة أخرى، جمعت بين موعد انطلاقة مفاوضات الحل الدائم، وبين حلول العام الستين للنكبة، لذلك أياً كانت المحاولات، فإن قضية اللاجئين الفلسطينيين حاضرة، ولن تستطيع أية حلول أن تتجاوزها.

مرة أخرى تحل الذكرى السنوية للقرار 194 الذي نص في الفقرة الحادية عشرة منه على وجوب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها، في أسرع وقت ممكن. لكن يبدو أن معيار السرعة لدى المنظمة الدولية للأمم المتحدة التي اتخذت القرار وباتت معنية بالمسؤولية عن تنفيذه يختلف عن معيار السرعة لدى الآخرين. فها نحن عشية الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية الكبرى، وما زال اللاجئون خارج ديارهم وممتلكاتهم، وما زال القرار 181 (نفسه) لم ينفذ بعد (كما قالت محكمة العدل الدولية في قرارها الاستشاري حول جدار الفصل العنصري في الضفة الفلسطينية) إذ قامت دولة إسرائيل، ولم تقم الدولة الفلسطينية بعد وتنفيذ القرار 181، برأي المحكمة الدولية، يفترض في السياق تنفيذ ما تناسل عنه من قرارات، ومنها بشكل رئيسي القرار 194. وبالتالي فإن «التسوية التاريخية» للصراع، إذا كانت تتطلب قيام دولة فلسطينية، فإنها تتطلب في الوقت نفسه عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم في مناطق 1948.
ولعل رئيس الحكومة الإسرائيلية أيهود أولمرت، ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني كانا من أكثر الناس إدراكاً لخطورة قضية اللاجئين الفلسطينيين على موضوع الصراع في المنطقة، وخطورة القرار 194 وتنفيذه على مستقبل المشروع الصهيوني متمثلاً في دولة إسرائيل. لذلك كان الاثنان معاً، ومن خلفهما حكومة إسرائيل بكامل أعضائها، وبكل أحزابها الصهيونية، واليهودية (كحزب شاس) تؤكد وتصر وتشترط على ضرورة وضع قضية اللاجئين جانباً، والتخلي مسبقاً عن حق العودة، قبل الدخول في مفاوضات الحل الدائم، والاتفاق على باقي عناصر الحل، خاصة المتعلق منها بمسألة قيام الدولة الفلسطينية. بل إن أولمرت نفسه بات يرى في مسألة قيام دولة فلسطينية «حلاً تاريخياً» يريح إسرائيل من وطأة قضية اللاجئين الفلسطينيين التي باتت تشكل كابوساً للحالة السياسية في تل أبيب. فالدولة الفلسطينية برأي أولمرت، هي المكان الذي يأوي إليه اللاجئون الفلسطينيون. وبذلك يكون أولمرت، رغماً عنه، قد قفز قفزة «تاريخية» واسعة جداًَ انتقلت به وبالحركة الصهيونية، من موقع رفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، إلى الاعتراف ليس بالشعب الفلسطيني، وبحقه في دولة فحسب، بل بحقه في «وطن قومي» و«الوطن القومي» هذا، هو دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وفق اشتراطات إسرائيلية وأميركية باتت معروفة جيداً للقاصي والداني، وليست دولة بالمعنى المتعارف عليها للدولة المستقلة وكاملة السيادة.
الرئيس الأميركي بدوره (ومعه أركان البيت الأبيض ووزارة الخارجية) يدرك محورية قضية اللاجئين في الصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي. وهو إن راجع أرشيف من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة، وبشكل خاص إيزنهاور، لتأكد أن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي التي عطلت على واشنطن كل مشاريع تطبيع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، وكل مشاريع دمج إسرائيل في المحيط الإقليمي للمنطقة. لذلك كان بوش واضحاً في كلمته في مؤتمر أنابوليس، حين دعا إلى اعتماد رسالته إلى شارون، في 14/4/2004، كإحدى مرجعيات مفاوضات الحل الدائم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وفيها نص واضح يدعو إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في مناطق إقامتهم، أو في الدولة الفلسطينية أو في دولة ثالثة، بديلاً لحق العودة فبوش يدرك استحالة الوصول إلى حل لقضايا الصراع دون «حل ما» بقضية اللاجئين ، وإن كان الحل الذي طرحه في رسالته هذه سبق لآخرين أن طرحوه (كوثيقة جنيف ـ البحر الميت مثلاً) ولقي صداً عنيفاً على يد ملايين الفلسطينيين، لاجئين وغير لاجئين.
وقبل بوش، توصل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إلى قناعة باستحالة تسوية الصراع في المنطقة دون حل لقضية اللاجئين. لذلك توصل مع حليفه، رئيس الوزراء إسرائيل الأسبق، ووزير دفاعها الحالي، الجنرال إيهود باراك، إلى حل، يتيح، بموجب شروط معينة، عودة بضعة آلاف من اللاجئين، لقي معارضة الغالبية العظمى من الفلسطينيين، بمن فيهم بعض أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض، الذين طالبوا إسرائيل بزيادة عدد الذين ستسمح لهم بالعودة، وما موقف كلينتون، وباراك، والوفد الفلسطيني المفاوض (وإن من مواقع متباينة) إلا اعتراف واضح وصريح بأن هذه القضية ـ قضية اللاجئين الفلسطينيين، هي ممر إجباري للوصول إلى حل للصراع في المنطقة.
إلى جانب هذا كله، ندرك الأوساط السياسية المعنية بالقرار داخل إسرائيل، أن تمسك اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، يزداد قوة يوماً بعد يوم؛ وأن نبؤه آباء الحركة الصهيونية بـ«أن الكبار سوف يموتون» وأن الصغار سوف ينسون» لم تصدق. فالكبار يموتون، صحيح، كما في كل شعب، لكن الصغار لم ينسوا، ولن ينسوا، وقد اعترفت التقارير الإسرائيلية الرسمية أن حل الصراع في هذه الفترة بالذات بات أكثر تعقيداً مما كان عليه منذ سنوات، أي بعد عدوان 1967، وحتى بعد مجازر أيلول (سبتمبر) عام 1970، حين تبلور مشروع «المملكة العربية المتحدة» وكذلك بعد ولادة اتفاق أوسلو نفسه وسبب ذلك، برأي هذه التقارير، هو ولادة حركة خاصة باللاجئين الفلسطينيين، باتت تشكل عنصراً بارزاً ورئيسياً في الضغط على صناع القرار في الحالة الفلسطينية. وتؤكد هذه التقارير أنه بات على صناع القرار الفلسطينيين أن يأخذوا بعين الاعتبار مزاج ورأي أصحاب حركة اللاجئين (أي رأي اللاجئين أنفسهم) عند صياغة استراتيجياتهم السياسية. ولعل مثل هذه الوقائع، وغيرها، هي التي تدفع بالجانب الإسرائيلي للتهرب من استحقاقات مفاوضات الحل الدائم. فيدعي مرة بانعدام الشريك الفلسطيني المؤهل للدخول في هذه المفاوضات، فيهرب إلى الحلول أحادية الجانب، كخطة التجميع والانطواء.
وعندما يصطدم بالواقع، ويتكشف له أن لا مفر من المفاوضات، يتهرب من رسم إطار زمني للمفاوضات ويدفع باتجاه تحويل هذه المفاوضات إلى هدف بحد ذاته، بدلاً من أن تكون وسيلة للوصول إلى تسوية للصراع. ولعل هذا، أيضاً، ما يدفع بالجانب الإسرائيلي إلى رمي عبء قضية اللاجئين على المفاوض الفلسطيني، تهرباً من استحقاقاتها. فيدعوه، ويشترط عليه، أن يضع هذه القضية خارج السياق التفاوضي بإعلان التخلي عن حق العودة، لصالح الاكتفاء بالدولة الفلسطينية، عنصراً وحيداً للحل، وإغلاق ملف الصراع مرة واحدة، وللأبد والتخلي عن أية مطالبات أخرى.
أهمية الذكرى السنوية لصدور القرار 194 هذه السنة، أنها تتزامن مع موعد انطلاق مفاوضات الحل الدائم، عملاً بقرار مؤتمر أنابوليس وإن كان هذا التزامن مجرد صدفة، إلا أنها صدفة ذات معاني يجب ألا تغيب عن بال الحركة الشعبية الفلسطينية. ونفترض، في هذا السياق، أن على حركة اللاجئين أن تكون طرفاً رئيسياً في العملية التفاوضية الجارية، بغض النظر عن المواقف من أنابوليس ونتائجه. وأن تكون حركة اللاجئين طرفاً في العملية التفاوضية، لا يعني بالضرورة أن تكون حاضرة إلى طاولة المفاوضات، في عداد الوفد الفلسطيني المفاوض. نحن نعلم مسبقاً أن حضور حركة اللاجئين في الوفد المفاوض أمر يعترض عليه الجانب الإسرائيلي (كما كان اعترض عليه في مؤتمر مدريد وفي مفاوضات واشنطن) كما يعترض عليه (وإن ضمناً) المفاوض الفلسطيني نفسه. حضور حركة اللاجئين إلى طاولة المفاوضات يكون عبر حركتها السياسية الشعبية الواسعة في كل تجمع من تجمعات اللاجئين، وعبر لعب دور اعتراضي فاعل ومؤثر، يقطع الطريق على أية خطوة يشتم منها الاستعداد للتلاعب بحقوق اللاجئين وقضيتهم، وفي المقدمة حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم. ونعتقد أن الإعلان عن العام القادم، العام الستين للنكبة، عاماً خاصاً باللاجئ الفلسطيني، يشكل هو الآخر فرصة أمام حركة اللاجئين، وأمام مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية للتحرك في كل الاتجاهات، بما يضغط على المفاوض الفلسطيني، ليمنعه من تجاوز الخطوط الحمر المتوافق عليها في وثيقة الوفاق الوطني (27/6/2006) التي رسمت بوضوح، ولأول مرة، وبتوافق وطني عام، أهداف النضال الوطني الفلسطيني.
هذا الكلام لا يعني أن قضية اللاجئين هي وحدها لب الصراع وجوهره، وأنها هي وحدها المعرضة للانتهاك في المفاوضات القادمة. إن عناصر التسوية، كلها، معرضة للخطر في المفاوضات القادمة: الأرض، حيث ثمة اقتراحات لتبادلات مهينة وطنياً، والمياه المنهوبة على يد الاحتلال والمرشحة لأن تبقى منهوبة حتى في ظل «الدولة». والحدود حيث الاقتراحات تدعو إلى أبقائها تحت سيطرة «طرف ثالث» أي نزع السيادة الفلسطينية عنها. وكذلك الحال بما خص المياه الإقليمية والأجواء الوطنية الفلسطينية. وهناك القدس التي تصر إسرائيل على إبقائها أسيرة الاحتلال بذريعة أنها العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل أي بتعبير آخر، إن الدولة المطروحة على طاولة البحث هي منقوصة السيادة واستقلالها منتهك على أيدي الاحتلال وأن طرح قضية اللاجئين يأتي في سياق استكمال ملف الموقف الفلسطيني، وضرورة رسم حدوده وضوابطه.
اللاجئون لم يعودوا هؤلاء المهجرين المنتشرين في الخيم الممزقة يقفون في طوابير وكالة الغوث ينتظرون حفنة من الدقيق وكوباً من الحليب. بل باتوا هذه الحركة السياسية المنظمة بمن فيها من كفاءات علمية وأكاديمية وخبرات ومعارف. وبالتالي فإن قضية اللاجئين لم تعد، ولن تكون بعد الآن، ورقة يتلاعب بها المفاوض الفلسطيني (أو غيره من الأطراف الآخرين).ومع ذكرى جديدة لصدور القرار 194 نتذكر أن بن غودريون مات وأن غولدا مائير ماتت وأن رابين، وجابوتنسكي، وآلون، وبيفن، وآخرين، كلهم قد ماتوا. وأن شارون بات الآن في عداد الأموات. أما قضية اللاجئين فلم تمت بل هي تزداد حيوية وتتسع مكانتها في الحالة الفلسطينية وفي الوجدان العربي، وفي الاهتمام العالمي. وفي الهم الإسرائيلي أيضاً.